سورة الفجر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفجر)


        


{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)}.
التفسير:
الليالى العشر.. ما تأويلها:
قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}؟
هذه خمسة أقسام، أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها، مفتتحا بها هذه السورة الكريمة.
وهى: الفجر، والليالى العشر، والشفع، والوتر، والليل.
والفجر، معروف في اللغة، ودلالته محددة لا اختلاف عليها.. وهو أول مطلع النهار، في جلد الليل الأسود.
أما الشفع، فهو الزوج من كل شىء.. فالاثنان في العدد شفع، والاثنان من الناس، أو الأنعام، أو الشجر، شفع.. وذلك على خلاف الوتر، الذي يدل على واحد فرد، لم يشفع بواحد آخر من جنسه.
ولكن ما دلالة: {ليال عشر}.
إنها إذا أخذت على إطلاقها، صحّ أن يقال إنها أي ليال عشر مقتطعة من ليالى الزمن على امتداده، فهى إذن ليست ليال على صفة خاصة، ولهذا جاءت منكّرة، ومع هذا فقد كثرت فيها أقوال المفسرين، فقيل هى الليالى العشر الأولى من ذى الحجة، وقيل هى العشر الأواخر من رمضان، التي بدىء بنزول القرآن فيها، والتي فيها ليلة القدر، وقيل هى عشر ليالى موسى التي كانت من الليالى الأربعين التي واعده اللّه سبحانه وتعالى فيها، كما يقول تبارك اسمه: {وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ} [142: الأعراف].
وقيل، وقيل كثير غير هذا.
وكذلك كانت المقولات في الشفع، والوتر.. فقيل إن الشفع صلاة الصبح، والوتر صلاة المغرب، وقيل إن الشفع هو الخلق، وما فيه من تزاوج بين المخلوقات، كالذكر والأنثى، والليل والنهار، والأرض، والسماء، والخير والشر.. ونحوها.. والوتر، هو الخالق سبحانه وتعالى، لأنه جل شأنه الواحد، المتفرد بالوحدانية.
ولم يخل من هذا الاختلاف إلا الليل فهو الذي أجراه المفسرون على إطلاقه.. حتى الفجر الذي قلنا إن دلالته محدودة في اللغة، لم يسلم من هذا الخلاف، فالذين قالوا إن الليالى العشر، هى العشر الأواخر من ذى الحجة- قالوا إن الفجر هو فجر الليلة العاشرة التي تمّ فيها مناسك الحج، وتنحر مع فجرها الأضحيات.
وتقطيع الوحدة الزمنية مع هذه الأوقات التي أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها، يجعل الجمع بينها خلوا من المناسبة التي تجمع بينها، وتؤلف منها كيانا متسقا متلاحما، الأمر الذي لا يفوت النظم القرآنى، في أىّ موضع يجتمع فيه شيء إلى شىء، سواء أكان هذا الجمع على سبيل التوافق أو التضاد.
ولعل خير موقف نأخذه عند النظر في هذه الأقسام، للخروج من هذا التضارب في دلالاتها، هو أن نقف بها عند مدلولها اللفظي، مطلقا من كل قيد.
فالفجر، هو الفجر.. أي فجر يكون!
والليالي العشر: هى ليال عشر، من أي ليالى الزمن كله على امتداده.
والشفع والوتر، هو العدد الزوجى، أو الفردى، من الليالى.
والليل، هو أي ليل يقابل النهار، من أي يوم من أيام الزمن.
وفى هذا نجد أن المقسم به هنا هو الزمن، في وحدات زمنية منه، هى:
الفجر، والليل، وعشر ليال من هذا الليل.
أما الشفع والوتر، وإن لم يكن من المتعيّن أن المعدود بهما قطع من الزمن، فإن السياق الذي جاءا فيه، يقضى بأن يكون المعدود- زوجا أو فردا- قطعا من الزمن، وأقرب هذه القطع أن تكون من الليالى، شفعا أو وترا.
إذ سبقهما قوله تعالى: {وليال عشر} وهى عدد شفع، وتلاهما قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ} وهو عدد وتر! ويكون القسم بالليالي العشر جملة، ثم القسم بها ليلتين ليلتين، وليلة ليلة.
فإذا ذهبنا- وهذا من التكلف الذي لا بأس به- إذا ذهبنا نلتمس الحكمة في القسم بهذه القطع من الزمن، دون غيرها: فإنا نقول- واللّه أعلم- إن القسم بالفجر إشارة إلى تفجر النور من أحشاء هذا الظلام الموحش، الذي يطبق على الوجود ويلفه في رداء ثقيل، أشبه بالأكفان التي يلف فيها الموتى.
إنه إشارة إلى بعث جديد للحياة، ودعوة مجددة للأحياء أن يكتحلوا بهذا النور، وأن يأخذوا مواقفهم فيه على طريق العمل.
والليالى العشر، هى الليالى العشر الأولى من أول كل شهر قمرى، وهى الليالى العشر في وسطه، ثم هى الليالى الأخيرة منه، فهى عشر في أول الشهر القمري، وعشر في وسطه، وعشر في آخره.
ويكاد يكون سلطان القمر في العشر الليالى الأولى من الشهر، وفى العشر الأواخر منه- يكاد يكون سلطانه على حدّ سواء فيهما، من حيث غلبة الظلام عليه.. أما عشر الليالى المتوسطة بين العشر الأولى والأخيرة، فهى التي يكون سلطان القمر فيها غالبا على ظلام الليل.
وعلى هذا يكون الشفع، هو العشر الليالى الأولى، والعشر الأخيرة من كل شهر قمرى. باعتبارهما وحدتين زمنيتين متماثلتين.
وأما الوتر، فهو العشر الليالى المتوسطة من الشهر، باعتبارها وحدة زمنية واحدة! ومن هذا يكون القسم بالليالي العشر، واقعا على الليالى كلها، في امتداد الزمن، ولكن مع دعوة إلى مراقبة الزمن، وملاحظة التغيرات التي تجرى على الليل.. ليلة ليلة.. فالليل يلبس في كل ليلة ثوبا جديدا مع القمر على مدى ثلاثين ليلة.. ثم يعود فيبدأ دورته من جديد معه، من هلال إلى بدر، إلى محاق.
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ} هو إطلاق لليل من هذا القيد الذي شدّه إلى القمر ودورته معه.. فهو ليل مطلق، يسرى في غلالته السوداء، مع القمر في كل منزل من منازله منه.. فهو في كل حال، ليل يسرى، وببسط سلطانه على الكائنات، وأنه لا يوقف مسيرة الليل إلا الفجر.
وفى التعبير عن حركة الليل بالسّرى: {إذا يسر} إشارة إلى أنه يتحرك في مسيرته والأحياء نيام لا يشعرون به، كما يتحرك الذين يسيرون فيه دون أن يشعر بهم أحد.
فالأقسام- كما ترى- هى أقسام بوحدات من الزمن، وفى هذه الوحدات، يبدو الزمن كائنا حيّا، يعايش الناس، ويشاركهم تقلبهم في الحياة، وفى هذا ما يبعث على النظر، والتدبر، والتفكر، مما يكشف عن قدرة الخالق وعظمته، وحكمته.
وبهذه المراقبة للزمن، والالتفات الواعي إلى حركته، يعرف الإنسان قيمة الزمن- ويحرص على الانتفاع بكل لحظة تمر منه.
وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} الحجر: العقل، وسمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه ويحميه من الضلال والضياع، ومنه الحجر على السفيه، صيانة لما له، من تصرفاته الحمقاء.. ومنه سميت الحجرة، لأنها تحجر من يداخلها، وتحميه من الحر، والبرد، ومن أيدى اللصوص، ونظرات المتلصصين.. والاستفهام هنا دعوة إلى أصحاب العقول أن ينظروا في هذه الأقسام التي تمجد من شأن الزمن، وتجعل من كل قطعة منه آية من آيات القدرة الإلهية، لا يراها إلا أصحاب العقول، ولا يدرك سر القسم بها إلا أولو البصائر والأبصار وفى دعوة العقول إلى النظر والملاحظة لسير الزمن وحركاته بالليل، إشارة إلى أن الليل هو الوقت الذي تهدأ فيه النفس، وتسكن الجوارح، فيجد العقل فيه فرصته للانطلاق، والقدرة على التأمل، والتفكير.. كما أن أكثر الناس يغفلون عن الليل، ولا يرونه إلا قبرا يحتوى أجسامهم، فلا يكون لهم وجود فيه، ولا يكون لعقولهم تعامل معه، في حين أنه يمثل جزءا كبيرا من حياتهم يعادل نصف هذه الحياة.. وإنه لخسران عظيم للإنسان أن يدع هذا النصف من عمره يذهب هباء، فكيف بمن يخسر عمره كلّه؟
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ}.
الاستفهام هنا تقريرى، تهديدى.. أي انظر كيف فعل ربك بعباد.
وكذلك يفعل ربك بالطاغين والمتجبرين.
وعاد، قبيلة قديمة من العرب البائدة، وكانت ديارهم بالأحقاف، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ} [21. الأحقاف] وإرم، هى موطن عاد، وهى بدل من كلمة عاد أي ألم تر كيف فعل ربك بأرم ذات العماد، التي عمرتها قبيلة عاد، وأعملت فيها قوتها الجسدية، وجلبت لها كل ما قدرت عليه من مل، ومتاع.. فكانت كما وصفها اللّه سبحانه: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ} أي لم يكن لها مثيل فيما جاورها من بلاد.
وكان النبي الذي أرسله اللّه إليهم، هو هود عليه السلام، وقد دعاهم إلى اللّه، وترفق بهم، وذكّرهم بآلاء اللّه عليهم، وإحسانه إليهم، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وفيما كان يقول هود لهم، ما جاء في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [69: الأعراف] وقد أهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية، كما يقول سبحانه: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} [6- 8: الحاقة] وسمى بناء المدينة وإقامتها على هذه الصورة العجيبة من القوة، والضخامة، والإحكام- سمى هذا خلقا، لأنها من عمل مخلوقات للّه، وكل ما يعمل فيه الناس، هو من خلق اللّه، كما يقول سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} [96: الصافات] ومناسبة قصة عاد وثمود وفرعون، لما قبلها، هى أنها تعرض قضية من القضايا التي تستحق من العقل أن يناقشها، وان يستحضر وجوده كله لها، وذلك بعد أن استدعى هذا الاستدعاء القوى الذي شدّ إليه بالقسم، لينظر في الزمن، وما تلد آناته ولحظاته من عجائب.
والقضية التي يدعى إليها العقل هنا، هى سنة من سنة اللّه سبحانه وتعالى، فيما يأخذ به أهل الزيغ والضلال، من بأساء وضراء في الدنيا، وما أعد لهم في الآخرة من عذاب السعير.
وفى عاد وثمود وفرعون، يتمثل وجه كريه من وجوه الكفر والضلال، والعتوّ.. وقد أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر، فاقتلعهم من جذورهم، وقطع نسلهم، وأتى على ما بنوا، وشيدوا.
وقوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ} معطوف على قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ} وكيف فعل ربك بثمود؟ وثمود، هم قوم صالح عليه السلام، وهم من العرب البائدة، وديارهم بالحجر بين الشام والعراق، وقد مر بها النبي، صلى اللّه عليه وسلم- في غزوة تبوك فسجّى ثوبه على وجهه، وأمر أصحابه أن يمروا بها مسرعين، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وقوله تعالى: {جابوا الصخر} أي قطعوه، وشقوه كما يشق الجيب، وهو فتحة الثوب التي يلبس منها.. ومعنى ذلك أنهم نحتوا الصخر في الوادي الذي يسكنون فيه، وجعلوا بيوتهم منحوتة في كيان الصخر، فكانت أشبه بحصون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ} [149: الشعراء] قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ} معطوف على {وثمود}.
والأوتاد جمع وتد، وهى تلك الأهرامات العظيمة التي أقامها فراعين مصر، فكانت أشبه بالجبال، التي هى أوتاد الأرض، كما يقول سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً} [6، 7: النبأ] وقوله تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ} {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} هو وصف لعاد، وثمود، وفرعون.. فهم جميعا من الطغاة الباغين، الذين استبدوا بالبلاد، وبالعباد، فأشاعوا الفساد حيث كانوا، ولهذا أخذهم اللّه جميعا بالعذاب فصّبه صبّا عليهم.
والسوط: أصله من ساط الشيء يسوطه، أي خلطه بغيره، لأن السوط يختلط بالجلد، حين يضرب به.
وسوط العذب، هو خليط من ألوان العذاب، وقد أخذ اللّه سبحانه كلّ جماعة من أهل الضلال بلون من ألوان الهلاك كما يقول سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا} [40: العنكبوت].
وإذ قد جمع اللّه سبحانه وتعالى بين عاد، وثمود، وفرعون، في سياق قصة واحدة- فكان من إعجاز النظم القرآنى أن يجمع عذابهم، وما أخذ به كل فريق منهم، في إناء واحد، وأن يصبّه عليهم جميعا، فإذا وقع بهم، أخذ كل فريق لون العذاب المسلّط عليه! وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} المرصاد: المكان العالي، الذي يقوم فيه الراصد، ليرقب ما يجرى هنا وهناك.
وفى هذا إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى رقيب على أعمال الناس، يرى كل ما يعملون، وسيحاسبهم على ما عملوا، دون أن يقلت أحد منهم، لأن اللّه سبحانه متمكن منهم، بهذا العلو الذي لا يدانى.


{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} الفاء هنا للتفصيل والإفصاح عما أجمله قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ} فكونه سبحانه وتعالى بالمرصاد، يرقب العباد، ويرى ما يعملون من خير أو شر- يقتضى أن هناك أعمالا مرصودة مسجلة على الناس، وأن الناس بحسب أعمالهم وإيمانهم باللّه، وتصور هم لجلاله وعظمته وحكمته- ليسوا على حال واحدة، بل هم أحوال شتى وأنماط مختلفة، ترجع جميعها إلى أمرين: الشكر، أو الكفر.
ولما كان المال، هو محكّ الإنسان، الذي يختبر به دينه وخلقه- فقد وضع اللّه سبحانه الإنسان في امتحان إزاء المال، منحا ومنعا، وإعطاء وحرمانا.
فماذا كان موقف الإنسان في هذين الحالين؟.
إنه موقف مختلف، كما يتيّن ذلك من آيات اللّه.
{فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} ففى الحال التي يفيض اللّه سبحانه وتعالى فيها المال على الإنسان، ويسوق إليه الكثير منه، لا يرى أن ذلك ابتلاء واختبار، كما يرى ذلك عباد اللّه المتقون، وكما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}.
؟ (40: النمل)- بل إنه يرى أن ذلك الإحسان المسوق إليه من عند اللّه، هو حقّ اقتضاه من اللّه سبحانه، لما يرى في نفسه من ميزات استحق بها هذا الإحسان دون الناس، فيقول كما يقول أهل الزيغ والضلال، فيما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [50: فصلت].
فالإنسان ضعيف أمام سلطان المال، وتسلطه عليه، فإذا لم يحضّ نفسه على مراقبة اللّه، وإذا لم يقم على نفسه وازعا يزعه من غلبة الهوى، استبدت به شهوة المال، وصرفته عن اللّه، وأرته الحياة الآخرة سرابا خادعا، لا ينبغى له أن يدع هذا الحاضر الذي بين يديه، ويتعلق بهذا السراب الخادع الذي لا يدرى ما وراءه!! والإنسان هنا، هو مطلق الإنسان، إلا من عصم اللّه، وهم قليل.
وفى قوله تعالى: {ابْتَلاهُ رَبُّهُ} إشارة إلى أن هذا المال المسوق إلى الإنسان، وتلك النعم التي ملأ اللّه بها يديه، هو ابتلاء وامتحان له من اللّه، يكشف به عن شكره أو كفره، وأن ذلك ليس لميزة امتاز بها على الناس، فكما يبتلى اللّه أولياءه بالمال، يبتلى أعداءه به أيضا، فيعطى كلّا من الأولياء والأعداء ما يشاء.. أما الأولياء فيحمدون، ويشكرون، وأما الأعداء فيزدادون كفرا وعنادا.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [35: الأنبياء].
وفى قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} إشارة إلى أن الابتلاء بالإعطاء والمنح، هو- عند من يعرف قدره، ويحسن استقباله- فضل وإكرام من اللّه، وإنه لجدير بالعاقل ألا ينزع عن نفسه هذا الثوب الذي كساه اللّه إياه، ويلبس نفسه لباس الشقاء والبلاء.
فالذين أنعم اللّه عليهم من عباده المكرمين بالملك والجاه والمال والسلطان- يرون فضل اللّه عليهم، وإحسانه إليهم، فلا يكون همّهم إلا إفراغ جهدهم كله في القيام بواجب الشكر للّه، والحمد للّه، أن أكرمهم بهذا العطاء، وعافاهم من المنع والحرمان. وفى هذا يقول سليمان عليه السلام: {يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [16: النمل].
إنه يهتف من أعماقه، محدّثا بنعمة اللّه عليه، داعيا الناس أن يشهدوا عليه، وهو بين يدى نعم اللّه السوابغ عليه، وأنه إذا لم يقم في مقام الشاكرين للّه، فليعدّوه جاحدا، بل وليخرجوا عن سلطانه الذي مكن اللّه سبحانه وتعالى به على الناس.. ويقول سليمان في موضع آخر، وقد رأى عرش ملكة سبأ ما ثلا بين يديه: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [40: النمل].
هكذا النفوس الكريمة الطيبة، تستقبل الإحسان بالإحسان، وتتلقىّ الخير بالخير.
بل إنها لتضيق بالإحسان، وتراه حملا ثقيلا عليها، إذا هى وجدت ضعفا عن القيام بشكره.. يقول الشاعر مخاطبا أحد ممدوحيه الذين أضعفوا عطاياهم له، وأضفوا إحسانهم عليه.. يقول:
لا تسدينّ إلىّ عارفة *** حتى أقوم بشكر ما سلفا
أنت الذي جللتنى مننا *** أوهت قوى ظهرى فقد ضعفا
وهذا وإن كان شعرا، وكان للخيال منه مكان- فإنه يقوم على أصل أصيل من مشاعر الفطرة الإنسانية السليمة، التي لم يفسدها الهوى، ولم يغلبها الطبع الحيواني المتوحش الكامن في الإنسان.
فالمال نعمة من نعم اللّه، وإحسان من إحسانه، وإنه لمن الغبن لمن أنعم اللّه به عليه، بفضله وإحسانه، أن يشترى به عداوة اللّه، وأن يفتح به إلى جهنم بابا من أبوابها!! فالمال نعمة، يمكن أن ينال بها العاقل طيبات الحياة الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.
ولكنه حين يقع ليد الأغبياء المغرورين، يكون عليهم وبالا، وشقاء، في الدنيا والآخرة جميعا.. وفى قارون شاهد عبرة وعظة! وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ}.
قدر عليه رزقه: أي ضيّقه عليه، ولم يوسع له فيه، بالنسبة لما يراه في غيره من الناس.
وفى هذه الحال يحاجّ هذا الإنسان الغافل الكفور- يحاجّ ربّه، ويلقاه متسخطا متبرما، متّهما خالقه بأنه لم يعرف قدره، ولم يؤد له ما هو جدبر به، وأنه ليس أقلّ من فلان، وفلان، من أصحاب الغنى والثراء!! وهذا ضلال مود بأهله، ومورد إياهم موارد التهلكة.
فالامتحان بالفقر، والضيق، والشدة، كالامتحان بالغنى، والثراء والنعم.
فإذا كان الامتحان بالغنى يضع الإنسان أمام شهوات عارمة، وأهواء غالبة، تحتاج لقهرها إلى رصيد عظيم من العزم، وقوة الإرادة- فإن الامتحان بالفقر والشدة، يضع الإنسان أمام عدوّ يريد أن نزعزع إيمانه، ويغتال صبره لحكم ربه، ورضاه بما قضى اللّه فيه.
قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا}.
هو رد على ما يقوم في نفوس كثير من الناس من تلك المفاهيم الخاطئة فيما يبتليهم اللّه سبحانه وتعالى به، من غنى أو فقر، فليست التوسعة في الرزق، بالتي تعطى العبد حجة بأنه من المكرمين عند اللّه، وليس التضييق في الرزق، بالذي يدلّ على إهانة اللّه سبحانه لمن قدر عليه رزقه.. إن هذا وذاك، امتحان وابتلاء، وليس كما يظن الجاهلون بأن اللّه إنما يرزق الناس في الدنيا بحسب مكانتهم عنده، فيوسّع على أوليائه، ويضيّق على أعدائه، وأن هؤلاء الذين أفقرهم اللّه، لو كانوا من المكرمين عنده لما ضيق عليهم في الرزق، ولما وضعهم بموضع الحاجة إلى الأغنياء، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في فضح منطقهم الفاسد، إذ يقول سبحانه على لسانهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}؟
(47: يس).
وكلا.. فإن هذا منطق ضالّ، ورأى فاسد سقيم!! ولقد أحالهم هذا الفهم الضال إلى حيوانات، لا تعرف غير ما تملأ به بطنها من طعام، فلقد جفّت فيهم عواطف الإنسانية، وانتزعت من قلوبهم مشاعر الرحمة.
فلم يكرموا اليتيم، كما أكرمهم اللّه، ولم يحسنوا إلى الفقير، كما أحسن اللّه إليهم.
بل اغتالوا حق اليتيم، ولم يمدّوا أيديهم بإحسان إلى مسكين، وأكلوا ما يرثون أكلا جامعا، غير مستبقين شيئا لما افترض اللّه سبحانه وتعالى عليهم في هذا الميراث الذي جاءهم من غير كدّو لا عمل، فهو ليس لهم وحدهم، وإنما هو أشبه بلقطة يلتقطونها من عرض الطريق، وأن من حق من يحضرهم وهم يمدون أيديهم إلى هذا المال أن ينال نصيبا منه، إذا كان من أهل العوز والحاجة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} [8: النساء].. والمراد بالقسمة هنا قسمة الميراث.. والمراد برزق أولى القربى واليتامى والمساكين من هذا الميراث- هو إعطاؤهم نصيبا منه، غير مقدّر بقدر محدود، وإنما هو فضل وإحسان.. ولقد أنكروا هذا الحق، وأكلوا الميراث كله!! وفى قوله تعالى: {أَكْلًا لَمًّا} إشارة إلى أنهم أكلوا ما لهم من حق في هذا الميراث، مع مالذوى القربى واليتامى والمساكين من حق فيه، وجمعوا هذا إلى ذاك، وأكلوه جميعه.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي}.
كلا، هو ردّ على موقف هؤلاء الذين لا يكرمون اليتيم، ولا يتحاضّون على طعام المسكين، ويأكلون التراث أكلا لمّا، ويحبون المال حبّا جمّا.. إن ذلك ليس هو طريق الفلاح والنجاة، بل هو طريق الخسران، والهلاك، وإن ذلك ليبدو لهم جليّا وضحا {إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} أي إذا جاء يوم القيامة، وتبدلت معالم هذه الحياة الدنيا، وذهب كل ما جمعوا فيها، وما أقاموا من دور وقصور.. وفى التعبير عن يوم القامة، بدكّ الأرض {دكا دكا} إشارة إلى أن ما بين أيديهم من متاع الحياة الدنيا سيتحول إلى حطام وأنقاض، فيكون بعضا من هذه الأرض التي لا يبقى على وجهها شىء، مخلّفا وراءه الويل لهم، والحساب العسير على ما أكلوا من حقوق، وما ضيعوا من واجبات.
وقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي جاء أمر اللّه وسلطانه ونصبت موازين الحساب، ووقف الملائكة في المحشر جندا حراسا، ينفذون أمر اللّه، ويسوقون أهل الضلال إلى النار، وأهل الإيمان إلى الجنة.
{ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [103: هود] وقوله تعالى: {وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} برزت جهنم لأهلها، فهذا هو يومها، ويوم المنذرين بها، المعذبين فيها.. {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى} [36: النازعات] وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى} أي في هذا اليوم يعقل الإنسان كل شىء، ويعلم عن يقين ما فاته علمه في الدنيا من حق.. ولكن لا ننفعه الذكرى، ولا يفيده العلم، فقد طويت صحف الأعمال، ولا سبيل إلى تدارك ما فات! وقوله تعالى: {يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي} إنه الندم الذي يملأ القلب حسرة وكمدا، وإنه النظر اليائس المتحسر إلى سقاء الماء وقد أربق كل ما فيه، في وسط صحراء ليس فيها قطرة ماء!! وفى قوله {لحياتى} إشارة إلى أن هذه الحياة- حياة الآخرة- هى حياة الإنسان حقا، وأن الحياة الدنيا ليست إلا معبرا إلى هذه الحياة.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ} أي في هذا اليوم لا يشهد الناس عذابا كهذا العذاب الذي يعذب اللّه به أهل الضلال، ولا قيدا محكما وثيقا كهذا القيد الذي يقيدهم اللّه به، فلا يجدون سبيلا للإفلات والهرب! والضمير في عذابه، يرجع إلى اللّه، ومثله الضمير في وثاقه.
وقوله تعالى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً} هذا النداء الكريم، الذي يدعو به اللّه سبحانه وتعالى أهل ودّه، من وسط هذا البلاء الخالق، المحيط بالناس يوم القيامة- هو قارب النجاة، الذي يخفّ مسرعا إلى تلك السفينة الغارقة في هذا البحر اللّجى، فيحمل هؤلاء الذين أكرمهم اللّه بفضله وإحسانه، فنجاهم من شر هذا اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا.. إن هذا النداء الذي يجىء على فجاءة وسط هذا البلاء، لهو أوقع أثرا، وأبلغ في إدخال المسرة على النفس، من أن يجىء مسبوقا بمقدمات تشير إليه، وتبشّر به.
والنفس المطمئنة، هى النفس المؤمنة، التي لا يستبد بها القلق في أي حال من أحوالها، في السراء أو الضراء، إنها في حال واحدة أبدا من الرضا بما قسم اللّه لها..، فهى في السراء شاكرة، حامدة، وفى الضراء صابرة راضية، فلا الغنى يطغيها، ويخرج بها عن طريق الاستقامة، ولا الفقر يسخطها، ويعدل بها عن الاطمئنان إلى قضاء اللّه فيها، وحكمه عليها.. إنها نفس مطمئنة ثابتة، على حال واحدة في إيمانها باللّه، ورضاها بما قسم لها.. وهذا الاطمئنان وذلك الرضا، لا يجد هما إلا المؤمنون باللّه، المتوكلون عليه، المفوضون أمورهم إليه.. فالاطمئنان الذي تصيبه بعض النفوس، ويكون صفة غالبة عليها، هو ثمرة الإيمان الوثيق باللّه، القائم على أصول ثابتة من المعرفة باللّه سبحانه وتعالى، وما له جل شأنه من سلطان مطلق متمكن، قائم على كل ذرة في هذا الوجود، وأنه لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بتقديره سبحانه، وبمقتضى حكمته وعلمه، وعدله.
وقد نودى الإنسان هنا بنفسه ولم يناد بذاته، لأن النفس هى جوهره السماوي، وهى التي كانت موطن الإيمان والاطمئنان.. وهى لهذا استحقت أن ترجع إلى ربها، وأن تنزل منازل رضوانه، إذ لم تغرق في تراب الأرض، ولم تضع معالمها فيه، كما ضاعت نفوس الضالين والغاوين.
وقوله تعالى: {راضِيَةً مَرْضِيَّةً} أي راضية بما أرضاها اللّه سبحانه به من فضله، مرضيّا عنها من ربها.. فالكلمتان حالان من أحوال النفس، وقد دعيت من ربها إلى الرجوع إليه.. إنها ترجع إلى ربها، وقد رضيت بما لقيها به ربّها من إكرام وإحسان، وقد رضى ربها عنها بما قدمت من أعمال طيبة.
فاللّه سبحانه وتعالى يرضى ويرضى، يرضى عن عباده المحسنين، ويرضيهم بإحسانه، كما يقول سبحانه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً}.
وفى الجمع بين صفة الرضا للنفس، والرضا من اللّه عنها- إشارة إلى أن هذا الرضا الذي تجده النفس هو رضا دائم متصل، لأنه مستمد من رضا اللّه عنها، وأنه ليس مجرد شعور يطرقها، أو خاطر يطوف بها، ثم يذهب هذا الشعور، ويغيب هذا الخاطر، مع موجات الخواطر، والمشاعر التي تموج في كيان الإنسان..!! كلا إنه رضا لا ينقطع أبدا.
وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} هو دعوة إلى هذه النفس المطمئنة، بعد أن عادت إلى ربها، أن تأخذ مكانها بين عباده الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه، وجعلهم في مقام كرمه وإحسانه، وأدخلهم جنته التي أعدها لهم، فلتأخذ هى مكانها معهم من تلك الجنة، ولتنعم بما ينعم به عباد اللّه المكرمون، من نعيم لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. جعلنا اللّه منهم، وألحقنا بهم، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.